نقلا من " القول المفيد " للشيخ ابن عثيمين :
قول
الله تعالى: )وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون( [الذريات: 56] الآية.
§
الآية الأولى قوله تعالى: )وما خلق الجن والإنس إلا ليعبدون) .
قوله: )إلا ليعبدون( استثناء مفرغ من أعم الأحوال؛ أي: ما خلق الجن والإنس لأي شيء إلا
للعبادة.
واللام في قوله: )إلا ليعبدون( للتعليل، وهذا التعليل لبيان الحكمة من الخلق، وليس التعليل
الملازم للمعلول؛ إذ لو كان كذلك للزم أن يكون الخلق كلهم عباداً يتعبدون له، وليس
الأمر كذلك، فهذه العلة غائية، وليست موجبة.
فالعلة الغائية لبيان الغاية
والمقصود من هذا الفعل، لكنها قد تقع، وقد لا تقع، مثل: بريت
القلم لأكتب به؛
فقد تكتب، وقد لا تكتب.
والعلة الموجبة معناها: أن
المعلول مبني عليها؛ فلابد أن تقع، وتكون سابقة للمعلول، ولازمة له، مثل: انكسر
الزجاج لشدة الحرة.
قوله: )خلقت(، أي أوجدت، وهذا الإيجاد مسبوق بتقدير، وأصل الخلق التقدير.
قال الشاعر.
ولأنت تفــري مـا خلقـت وبعض الناس يخلق ثم لا يفري
قوله: ( الجن ) : هم عالمُ غيبيُ مخفيُ عنا، ولهذا جاءت المادة من الجيم والنون،
وهما يدلان على الخفاء والاستتار، ومنه: الجَنة، والجِنة، والجُنة.
قوله: ( الإنس ) سموا بذلك، لأنهم لا يعيشون بدون إيناس، فهم يأنس بعضهم ببعض،
ويتحرك بعضهم إلى بعض.
قوله: ( إلا ليعبدون ) فُسِّر: إلا ليوحدون، وهذا حق، وفُسِّر: بمعنى يتذللون لي بالطاعة
فِعلاً للمأمور، وتركاً للمحظور، ومن طاعته أن يوحد سبحانه وتعالى؛ فهذه هي الحكمة
من خلق الجن والإنس.
ولهذا أعطى الله البشر عقولاً، وأرسل إليهم رسلاً، وأنزل عليهم كتباً، ولو كان الغرض من خلقهم كالغرض من
خلق البهائم؛ لضاعت الحكمة من إرسال الرسل، وإنزال الكتب؛ لأنه في النهاية يكون كشجرة نبتت، ونمت،
وتحطمت، ولهذا قال تعالى: )إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد( [القصص: 85]؛ فلابد أن يردك
إلى معادٍ تجازى على عملك إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
وليست الحكمة من خلقهم نفع الله، ولهذا قال تعالى: )ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون( [الذريات: 57].
وأما قوله تعالى: )من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له( [البقرة: 245].
فهذا ليس إقراضاً لله سبحانه، بل هو غنيُّ عنه، لكنه سبحانه شبه معاملة عبده له بالقرض؛ لأنه لا بد من وفائه،
فكأنه التزامُ من الله سبحانه أن يوفى العامل أجر عمله كما يوفي المقترض من أقرضه.